فصل: تفسير الآية رقم (67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (64- 66):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}
{وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}.
قال ابن عباس وعكرمة والضحّاك وقتادة: إن اللّه كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية فلما عصوا اللّه في محمد عليه السلام وكذبوا به كفى اللّه عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص بن عازورا: يد اللّه مغلولة لم يريدوا إلى عنقه ولكنهم أرادوا إنها مقبوضة بمعنى منه ممسكة عن الرزق فنسبوه إلى البخل.
وقال أهل المعاني: إنما قال هذه المقالة فنحاص فلم ينهوا الآخرون ورضوا بقوله فأشركهم اللّه فيها وأرادوا باليد العطاء لأن عطاء الناس بذل معروفهم في الغالب بأيديهم واستعمل الناس اليد في وصف الإنسان بالرد والبخل.
قال الشاعر:
يداك يدا مجد فكف مفيد ** وكف إذا ما ضن بالمال ينفق

ويقال للبخيل: جعد الأنامل، مقبوض الكف، كز الأصابع، مغلول اليدين، قال اللّه {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} الآية [الإسراء: 29].
قال الشاعر:
كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها ** وكل باب من الخيرات مفتوح

فاستبدلت بعده جعداً أنامله ** كأنما وجهه يأكل منضوج

وقال الحسن: معناه يد اللّه مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلاّ بما يقرّبه قيمة قدر ما عبد آباؤنا العجل. وهو سبعة أيّام.
وقال مجاهد والسدّي: هو أن اليهود قالوا إن اللّه لما نزع ملكنا منا وضع يده على صدره يحمد إلينا ويقول: يا بني إسرائيل، يا بني أحباري لا أبسطها حتى أرد عليكم الملك. والقول الأول أولى بالصواب لقوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} وقيل: هو استفهام تقديره: أيد اللّه مغلولة عنا؟ حيث قتّر المعيشة علينا قال اللّه {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أي مسكت أيديهم عن الخيرات وقبضت عن الانبساط بالعطيات.
وقال يمان بن رئاب: شدد وثقل عليهم الشرائع، بيانه قوله: {والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقيل: هو من الغل في النار يوم القيامة كقوله: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] {وَلُعِنُواْ} عذبوا {بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} إختلفوا في معنى يد اللّه سبحانه، فقال قوم: إن له يداً لا كالأيدي وأشاروا باليد إلى الجارحة ثم قصدوا نفي التشبيه بقوله لا كالأيدي وهذا غير مرضي من القول وفساده لا يخفى.
وقال الآخرون: يده قدرته لقوله: {أُوْلِي الأيدي والأبصار} [ص 45].
وقيل: هو ملكه كما يقال لمملوك الرجل، هو ملك يمينه. قال اللّه تعالى {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] أي إنه يملك ذلك، وعلى هذين القولين يكون لفظه مشبه ومعناه واحد لقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] أراد به جنة واحدة. قاله الفرّاء: وأنشدني في بعضهم:
ومنهم يدين قدمين مرتين ** قطعة بالألم لا بالسمينين

أراد منهما واحداً وسمنة واحدة.
قال وأنشد في آخر:
يمشي مكبداً ولهزمين ** قد جعل الأرطا جنتين

أراد لهزماً وجنة.
وقيل: أراد بذلك نعمتاه.
كما يقال: لفلان عندي يداً نعمة، وعلى هذا القول يكون بعضه تشبيه ومعناه جمع كقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. والعرب تضع الواحد موضع الجمع كقوله: {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً} [الفرقان: 55]. {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] و{إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] ونحوها، ويقول العرب: ما أكثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، ويضع التشبيه أيضاً موضع الجمع كقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] فأراد الجمع. قال امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

يدل عليه:وقوفاً بها صحبي على مطيّهم..... يقول بأنه أخذ الجمع. قال محمد بن مقاتل الرازي: أراد نعمتان مبسوطتان نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة، وهذه تأويلات مدخولة لأن اللّه عز وجل ذكر له خلق آدم بيده على طريق التخصيص والتفضيل لآدم على إبليس، ولو كان تأويل اليد ما ذكروا لما كان لهذا التخصيص والتفضيل لآدم معنى لأن إبليس أيضاً مخلوق بقدرة اللّه وفي ملك اللّه ونعمته.
وقال أهل الحق: إنه صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه، قال الحسن: إن اللّه سبحانه يداه لا توصف، دليل هذا التأويل إن اللّه ذكر اليد مرّة بلفظ اليد فقال عز من قائل {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله} [آل عمران: 73] {بِيَدِكَ الخير} [آل عمران: 26] {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} [الملك: 1].
وقال عليه السلام: «يمين اللّه ملأن لا يعيضن نفقة فترد به» وقال عز وجل مرّة وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}.
وقال عز وجل: وكلتا يديه يمين وجمعه مرّة فقال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} [يس: 71] قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} بإنكارهم ومخالفتهم وتركهم الإيمان {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء} يعني من اليهود والنصارى {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ} يعني اليهود والنصارى أفسدوا وخالفوا حكم التوراة فغضب اللّه عز وجل فبعث عليهم بخّت نصّر ثم أفسدوا فبعث اللّه عليهم وطرس الرومي ثم أفسدوا فسلّط اللّه عليهم المجوس ثمّ أفسدوا فسلّط الله عليهم المسلمين وكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم اللّه تعالى وكلما جمعوا أمرهم على حرب رسول اللّه وأوقدوا ناراً للحرب {أَطْفَأَهَا الله} وقهرهم ونصر نبيه ودينه {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} الآية {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ} الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} يعني أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ} أي القرآن. وقيل: كُتب بني إسرائيل {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} يعني المطر {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يعني النبات.
وقال الفرّاء: إنما أراد به التوسعة كما يقال: فلان في خير من قرنه إلى قدمه، نظيره {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء} [الأعراف: 96] {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} يعني مؤمني أهل الكتاب. ابن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون رجلاً من النصارى وهم النجاشي وبحيرا وسلمان الفارسي وخير مولى قريش وأصحابهم.
قال ابن عباس: هم العاملة غير العالية ولا الحافية {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} كعب بن الأشرف وأصحابه، وأهل الروم. {سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ}.

.تفسير الآية رقم (67):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}
{ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ}.
إختلفوا في تنزيل هذه الآية وتأويلها فروى محمد بن كعب القرضي عن أبي هريرة قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فينزل تحتها ويقيل، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه إعرابي وأخذ السيف من الشجرة وأخترطه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: «اللّه». فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب برأسه الشجرة حتى إنفرد ساعة فأنزل اللّه الآية.
وقال أنس:كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، قال: وقالت عائشة: فكنت ذات ليلة إلى جنبه فسهر تلك الليلة، فقلت: يا رسول اللّه ما شأنك؟ فقال: «ليت رجل صالح حرسني الليلة»قالت: فبينما نحن في ذلك حتى سمعت صوت السلاح. فقال: من هذا؟ قال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه فنزلت الآية فأخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أديم وقال: «إنصرفوا أيها الناس فقد عصمني اللّه عز وجل».
وروى الحسن مرسلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت إن من الناس من يكذبني» وكان عتابه قريشاً واليهود والنصارى فأنزل اللّه الآية، قلت: ولما نزل قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [الأنعام: 108] سكت النبي عليه السلام عن عيب الهتهم فأنزل اللّه تعالى {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67] يعني معايب آلهتهم.
وقيل: نزلت فى عيب اليهود وذلك إنه عليه السلام دعا اليهود إلى الإسلام وقالوا: أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون: تريد أن نتّخذك عياناً كما اتخذت النصارى عياناً عيسى، فلما رأى النبي عليه السلام ذلك سكت فحرضه اللّه على دعائهم إلى الإسلام وأمره أن يقول لهم. {اأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ} الآية.
قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقاويل لأنه ليس بين قوله بلّغ ما أنزل إليك وبين قوله لستم على شيء فصل.
فلما نزلت الآية قال عليه السلام: «لا يأتي من عندي ومن نصرني» وقيل: نزلت في قصة عيينة بن حصين وفقراء أهل الصفة وقيل: بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص ومرّ في قصة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من أمر نسائك. وذلك أن رسول اللّه لما نزلت آية التخيير لم يكن يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدنيا فأنزل اللّه، وقيل: بلغ ما أنزل إليك في أمر زينب بنت جحش، وقيل: نزلت في الجهاد، وذلك إن المنافقين كرهوه، قال اللّه: {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال} [محمد: 20] الآية وكرهه أيضاً بعض المؤمنين قال اللّه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] الآية، وكان عليه السلام يمسك في بعض المسلمين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة القوم فأنزل اللّه الآية.
وقال أبو جعفر محمد بن علي: معناه: بلّغ ما أنزل إليك في فضل علي بن أبي طالب، فلما نزلت الآية أخذ عليه السلام بيد علي، فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».
أبو القاسم يعقوب بن أحمد السري، أبو بكر بن محمد بن عبد اللّه بن محمد، أبو مسلم إبراهيم ابن عبد اللّه الكعبي، الحجاج بن منهال، حماد عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لما نزلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كنّا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول اللّه عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي، فقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «ألست أولى بكل مؤمن من نفسه»؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «هذا مولى من أنا مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه». قال: فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
روى أبو محمد عبداللّه بن محمد القايني ن أبو الحسن محمد بن عثمان النصيبي ن: أبو بكر محمد ابن الحسن السبيعي ن علي بن محمد الدّهان، والحسين بن إبراهيم الجصاص قالانا الحسن بن الحكم ن الحسن بن الحسين بن حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {ياأيها الرسول بَلِّغْ} قال: نزلت في علي رضي الله عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ فيه فأخذ عليه السلام بيد علي، وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه».
وبلغ ما أنزل إليك في حقوق المسلمين فلما نزلت الآية خطب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أي يوم هذا الحديث في خطبة الوداع، ثم قال: «هل بلّغت».
{وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} قرأ ابن محيصن وابن قفال وأبو عمرو والأعمش وشبل: رسالته، على واحدة، وهي قراءة أصحاب عبد اللّه. الباقون جمع.
فإن قيل: فأي فائدة في قوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ولا يقال: كل من هذا الطعام وإن لم تأكل فما أكلته.
الجواب فيه ما سمعت فيه أبا القاسم بن جندب سمعت علي بن مهدي الطبري يقول: أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تبليغ ما أنزل إليك في الوقت والإتيان فيه.
حتى تكثر الشركة والعدة وإن لم يفعل على كل ما أوصى اللّه إليه واحكم اللّه أن حرّم بعضها لأنه كمن لم يبلغ لأن تركه إبلاغ البعض محيط لإبلاغ ما بلغ. كقوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ} [النساء: 150] الآية.
فاعلم أن إيمانهم بالبعض إلى بعضهم وأن كفرهم بالبعض يحيط الإيمان بالبعض. وحاشى لرسول اللّه أن يكتم شيئاً مما أوحى اللّه.
قالت العلماء: الدعوة بقراءة الصلاة إذ البعض ركن من أركانها.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن الأخدش يحكي عن الحسن ابن الفضل أنّه قال: معنى الآية بلغ ما أنزل إليك في الوقت حتى تكثر الشوكة والعدّة، ومن لم يفعل هذا كتب كمن لم يبلغ، وقيل: بلغ مجاهداً محتسباً صابراً غير خائف، وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك إلى جميع الناس ولا تخاف.
وهذه من الحدود التي يدل مقام القطع عليه.
{والله يَعْصِمُكَ} يحفظك ويمنعك {مِنَ الناس} ووجه هذه الآية، وقد شجّ جبينه وكسُرت رباعيته وأوذي في عدة مواطن بضروب من الأذى، فالجواب أن معناها واللّه يعصمك منهم فلا يصلون إلى مثلك، وقيل: نزلت هذه الآية بعد ما شجّ جبينه وكسرت رباعيته لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.
وقيل: معناه واللّه يعصمك يخصك بالعصمة من بين الناس لأنه كان نبي الوقت والنبي معصوم.
{إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} عن عبد اللّه الحسين بن محمد الديلمي، محمد ابن إسحاق السبتي، أبو عروة، عمرو بن هشام، محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن أبي عبد الملك عن القاسم عن أبي أُمامة قال: كان رجل من بني هاشم يقال له ركانة وكان من أفتك الناس وأشدهم بأساً وكان مشركاً وكان يرعى غنماً له ويقال له أقسم فخرج نبي اللّه صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة ذات يوم متوجهاً قِبَل ذلك الوادي فلقيه ركانة وليس مع نبي اللّه أحد فقام إليه ركانه وقال: يا محمد أنت الذي تشتم الهتنا اللات والعزى وتدعو إلى إلهك العزيز الحكيم؟ ولو لا رحم بيني وبينك ما كلمتك حتى أقتلك ولكن أدع الهك العزيز الحكيم يخلصك مني اليوم وسأعرض عليك أمراً هل لك أن أصارعك وتدعو إلهك العزيز الحكيم يعينك عليّ وأنا أدعو اللات والعزى فإن أنت صرعتني فلك عشرة من غنمي وتختارها فقال عليه السلام: قم إن شئت واتخذ العهد ودعا النبي صلى الله عليه وسلم إلهه العزيز الحكيم أن يعينه على ركانة، ودعا ركانة إلهه اللات والعزى- أن أعنّي اليوم على محمد فأخذه النبي عليه السلام فصرعه وجلس على صدره.
فقال ركانة: يا محمد قم فلست الذي فعلت هذا بي إنما إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى وما وضع أحد جنبي قبلك، فقال ركانة: عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى ومن خيارها. فقام النبي عليه السلام ودعا كل واحد منهما إلهه كما فعلا أول مرّة فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم وجلس على كبده، فقال له ركانة: فلست أنت الذي فعلت فيّ هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى وما وضع جنبي أحد قبلك، فقال له ركانة: عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى تختارها فأخذ مني اللّه ودعا كل واحد منهما إلهه فصرعه نبي اللّه الثالثة، فقال له ركانة: لست أنت الذي فعلت بي هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى فدونك ثلاثين شاة من غنمي فأخسرها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا أريد ذلك ولكن أدعوك إلى الإسلام وأركانه وأنفس بك أن تصير إلى النار، إنك إن تُسلم تسلم فقال له ركانة: ألا تريني آية، فقال له نبي اللّه عليه السلام اللّه شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل لهذا لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟ قال: نعم، وقريب منهما شجرة ذات فروع وقضبان فأشار نبي اللّه عليه السلام، فقال لها: أقبلي بإذن اللّه فانشقت إثنتين وأتت على نصف شقها وقضبانها وفروعها حتى كانت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبين ركانة فقال له ركانة: أريتني عظيماً، فمرها فلترجع، فقال عليه السلام اللّه شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل فأمرها فرجعت لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟
قال: نعم، فأمرها النبي عليه السلام فرجعت بقضبانها وفروعها حتى إلتأمت فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم أسلم تسلم، فقال له ركانة: فما لي ألاّ أكون أما أنا فقد رأيت عظيماً، ولكني أكره أن يتحدث فينا أهل المدينة وفتيانهم فيّ إنما أجيبك لرعب دخل قلبي منك، ولكن قد علمت في أهل المدينة وصبيانهم إنه لم يوضع جنبي قط ولم يدخل قلبي رعب ساعة قط ليلاً ولا نهاراً فلك دونك فاختر غنمك، فقال عليه السلام: ليس في حاجة إلى غنمك إذ أبيت أن تسلم، فانطلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم راجعاً فأقبل أبو بكر وعمر يسألانه في بيت عائشة فأخبرتهما إنه قد توجه قِبَل وادي أضم وقد عرفا إنه وادي ركانة لا يخطيه، فخرجا في طلبه وأشفقا أن يلقاه ركانة فيقتله، فجعلا يصعدان على كل شرفة ونظرا فإذا هما كذلك إذ نظر نبي اللّه عليه السلام مقبلاً، فقالا: يا نبي اللّه كيف تخرج إلى هذا الوادي وحدك وقد عرفت إنه جهة ركانة وإنه من أفتك الناس وأشدهم تكذيباً لك، فضحك إليهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اليس اللّه يقول: {رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} إنه لم يكن يصل إليّ واللّه معي» وأنشأ يحدثهما حديث ركانة والذي فعله به والذي أراه فعجبا من ذلك وقالا: يا رسول اللّه عرفت ركانة فلا والذي بعثك بالحق ما نعلم إنه وضع جنبيه إنسان قط، فقال عليه السلام: «إني دعوت ربي عز وجل فأعانني عليه، وإن ربي قال خذ عشرة لك وبقوة عشرة».